قصص من الواقع
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
قصص من الواقع
* واحترق صاحبي
قال أبوعبد الله : (( لا أعرف كيف أروي لك هذه القصة التي عشتها منذ فترة والتي غيرت مجرى حياتي كلها ، والحقيقة أنني لم أقرر أن أكشف عنها .. إلا من خلال إحساسي بالمسؤولية تجاه الله عز وجل .. ولتحذير بعض الشباب الذي يعصي ربه .. وبعض الفتيات اللاتي يسعين وراء وهم زائف .. اسمه الحب !
كنا ثلاثة من الأصدقاء .. يجمع بيننا الطيش والعبث ! كلا .. بل أربعة .. فقد كان الشيطان رابعنا ..
فكنا نذهب لاصطياد الفتيات الساذجات بالكلام المعسول ونستدرجهن إلى المزارع البعيدة .. وهناك يفاجأن بأننا قد تحولنا إلى ذئاب لا نرحم توسلاتهن بعد أن ماتت قلوبنا ومات فينا الإحساس !
هكذا كانت أيامنا وليالينا في المزارع ، في المخيمات .. والسيارات على الشاطئ ! إلى أن جاء اليوم الذي لا أنساه ! ذهبنا كالمعتاد للمزرعة .. كان كل شيء جاهزا .. الفريسة لكل واحد منا ، الشراب الملعون .. شيء واحد نسيناه هو الطعام .. وبعد قليل ذهب أحدنا لشراء طعام العشاء بسيارته كانت الساعة السادسة تقريبا عندما انطلق ومرت الساعات دون أن يعود .. وفي العاشرة شعرت بالقلق عليه فانطلقت بسيارتي أبحث عنه .. وفي الطريق شاهدت بعض ألسنة النار تندلع على جانبي الطريق ..
وعندما وصلت فوجئت بأنها سيارة صديقي والنار تلتهمها وهي مقلوبة على أحد جانبيها .. كالمجنون أحاول إخراجه من السيارة المشتعلة .. وذهلت عندما وجدت نصف جسده وقد تفحم تماما لكنه كان ما يزال على قيد الحياة فنقلته إلى الأرض .. وبعد دقيقة فتح عينيه وأخذ يهذي .. النار .. النار .
فقررت أن أحمله بسيارتي وأسرع به إلى المستشفى لكنه قال لي بصوت باك : لا فائدة .. لن أصل ..
فخنقتني الدموع وأنا أرى صديقى يموت أمامي .. وفوجئت به يصرخ : ماذا أقول له : ماذا أقول له ؟ نظرت إليه بدهشة وسألته : من هو ؟ قال بصوت كأنه قادم من بئر عميق : الله .
أحسست بالرعب يجتاح جسدى ومشاعري وفجأة أطلق صديقي صرخة مدوية .. ولفظ آخر أنفاسه .. ومضت الأيام لكن صورة صديقي الراحل وهو يصرخ والنار تلتهمه . ماذا أقول له .. ماذا أقول له ؟
ووجدت نفسي أتساءل : وأنا .. ماذا سأقول له ؟ فاضت عيناى واعترني رعشة غريبة .. وفي نفس اللحظة سمعت المؤذن لصلاة الفجر ينادي : الله أكبر الله أكبر .. أشهد أن لا إله إلا الله .. وأشهد أن محمدا رسول الله .. حي على الصلاة ..
أحسست أنه نداء خاص بي يدعوني لأسدل الستار على فترة مظلمة من حياتي .. يدعوني إلي طريق النور والهداية .. فاغتسلت وتوضأت وطهرت جسدي من الرذيلة التي غرقت فيها لسنوات .. وأديت الصلاة .. ومن يومها لم يفتني فرض !
وأحمد الله الذي لا يحمد سواه .. لقد أصبحت إنسانا آخر وسبحان مغير الأحوال .. وبأذن الله تعالى أستعد للذهاب لأداء العمرة .. وإن شاء الله الحج فمن يدري .. الأعمار بيد الله سبحانهن وتعالى .. )) .
خاتمتان متناقضتان
عشت مرحلتي الدراسية مع والدي ..
في بيئة صالحة اسمع دعاء أمي وأنا عائد من سهري آخر الليل .
أسمع صوت أبي في صلاته الطويلة .. طالما كنت أقف متعجبا من طولها .. خاصة عندما يحلو النوم أيام الشتاء البارد ..
أتعجب في نفسي وأقول .. ما أصبره .. كل يوم هكذا .. شيء عجيب .
لم أكن أعرف أن هذه هي راحة المؤمن وأن هذه هي صلاة الأخيار .. يهبون من فرشهم لمناجاة الله ..
بعد المرحلة التي قطعتها في دراستي العسكرية .. ها قد كبرت وكبر معي بعدي عن الله ..
على الرغم من النصائح التي أسمعها وتطرق مسامعي بين الحين والآخر ..
عينت بعد تخرجي في مدينة غير مدينتي وتبعد عنها مسافة بعيدة .. ولكن معرفتي الأول بزملائي في العمل خففت ألم الغربة على نفسي ..
انقطع عن مسامعي صوت القرآن .. انقطع صوت أمي التي توقظني للصلاة وتحثني عليها .. أصبحت أعيش وحيدا .. بعيدا عن الجو الأسري الذي عشته من قبل ..
تم توجيهي للعمل في مراقبة الطرق السريعة .. وأطراف المدينة للمحافظة على الأمن ومراقبة الطرق ومساعدة المحتاجين .. كان عملي متجددا وعشت مرتاحا .. أؤدي عملي بجد وإخلاص .. ولكني عشت مرحلة متلاطمة الأمواج ..
تتقاذفني الحيرة في كل اتجاه .. لكثرة فراغي .. وقلة معارفي .
وبدأت أشعر بالملل .. لم أجد من يعينني على ديني .. بل العكس هو الصحيح ..
من المشاهد المتكررة في حياتي العملية الحوادث والمصابين ..ولكن كان يوما مميزا ..
في أثنا عملنا توقفت أنا وزميلي على جانب الطريق .. نتجاذب أطراف الحديث .
فجأة سمعنا ارتطام قوي ..
أدرنا أبصارنا .. فإذا بها سيارة مرتطمة بسيارة أخرى كانت قادمة من الاتجاه المقابل .. هبينا مسرعين لمكان الحادث لإنقاذ المصابين ..
حادث لا يكاد يوصف .. شخصان في السيارة في حالة خطيرة .. أخرجناهما من السيارة .. ووضعناهما ممدين ..
أسرعنا لإخراج صاحب السيارة الثانية .. الذي وجدناه فارق الحياة .. عدنا للشخصين فإذا هما في حال الاحتضار ..
هب زميلي يلقنهما الشهادة ..
قولوا لا إله إلا الله .. لا إله إلا الله ..
لكن ألسنتهما ارتفعت بالغناء .. أرهبني الموقف .. وكان زميلي على عكسي يعرف أحوال الموت .. أخذ يعيد عليهما الشهادة ..
وقفت منصتا .. لم أحرك ساكنا شاخص العينين أنظر .. لم أر في حياتي موقفا كهذا .. بل لم أر الموت من قبل وبهذا الصورة .. أخذ زميلي يردد عليهما كلمة الشهادة .. وهما مستمران في الغناء ..
لا فائدة
بدأ صوت الغناء يخفت .. شيئا فشيئا .. سكت الأول وتبعه الثاني .. لا حراك ..
فارقا الدنيا .
حملناهما إلى السيارة .. وزميلي مطرق لا ينبس ببنت شفه .. سرنا مسافة قطعها الصمت المطبق ..
قطع هذا الصمت صوت زميلي فذكر لي حال الموت وسوء الخاتمة .. وإن الإنسان يختم له إما بخير أو شر .. وهذا الختام دلالة لما كان يعمله الإنسان في الدنيا غالبا .. وذكر لي القصص الكثيرة التي رويت في الكتب الإسلامية .. وكيف يختم للمرء على ما كان عليه بحسب ظاهره وباطنه ..
قطعنا الطريق إلى المستشفي في الحديث عن الموت والأموات وتكتمل الصورة عندما أتذكر نحمل أمواتا بجوارنا ..
خفت من الموت واتعظت من الحادثة .. وصليت ذلك اليوم صلاة خاشعة ..
ولكن نسيت هذا الموقف بالتدريج ..
بدأت أعود إلى ما كنت عليه .. وكأني لم أشاهد الرجلين وما كان منهما .. ولكن للحقيقة أصبحت لا أحب الأغاني .. ولا أتلهف عليها كسابق عهدي .. ولعل ذلك مرتبط بسماعي لغناء الرجلين حال احتضارهما ..
من عجائب الأيام ..
بعد مدة تزيد على ستة أشهر .. حصل حادث عجيب ..شخص يسير بسيارته سيرا عاديا .. وتعطلت سيارته .. في أحد الأنفاق المؤدية إلى المدينة ..
ترجل من سيارته .. لإصلاح العطل في أحد العجلات .. عندما توقف خلف سيارته .. لكي ينزل العجلة السليمة ..
جاءت سيارة مسرعة .. وارتطمت به من الخلف .. سقط مصابا إصابات بالغة ..
حضرت أنا وزميل آخر غير الأول .. وحملناه معنا في السيارة وقمنا بالاتصال بالمستشفى لاستقباله ..
شاب في مقتبل العمر .. متدين يبدو ذلك من مظهره ..
عندما حملناه سمعناه يهمهم .. ولعجلتنا في سرعة حمله لم نميز ما يقول .
ولكن عندما وضعناه في السيارة وسرنا ..
سمعنا صوتا مميزا ..
إنه يقرأ القرآن .. وبصوت ندي .. سبحان الله لا تقول هذا مصاب ..
الدم قد غطى ثيابه .. وتكسرت عظامه .. بل هو على ما يبدو على مشارف الموت ..
استمر يقرأ بصوت جميل .. يرتل القرآن ..
لم أسمع في حياتي مثل تلك القراءة .. كنت أحدث نفسي وأقول سألقنه الشهادة ما فعل زميلي الأول .. خاصة وأن لي سابق خبرة كما أدعي ..
أنصت أنا وزميلي لسماع ذلك الصوت الرخيم ..
أحسست أن رعشة سرت في جسدي .. وبين أضلعي ..
فجأة .. سكت ذلك الصوت .. التفت إلى الخلف .. فإذا به رافع أصبع السبابة يتشهد ..
ثم انحنى رأسه ..
قفزت إلى الخلف ..
لمست يده ..
قلبه ..
أنفاسه ..
لا شيء ..
فارق الحياة ..
نظرت إليه طويلا .. سقطت دمعة من عيني .. أخفيتها من زميلي .. التفت إليه وأخبرته أن الرجل قد مات .. انطلق زميلي في البكاء أما أنا فقد شهقت شهقة وأصبحت دموعي لا تقف .. أصبح منظرنا داخل السيارة مؤثرا ..
وصلنا المستشفى ..
أخبرنا كل من قابلنا عن قصة الرجل .. الكثير تأثروا من حادثة موته وذرفت دموعهم .. أحدهم بعدما سمع قصة الرجل ذهب وقبل جبينه ..
الجميع أصروا على عدم الذهاب حتى يعرفوا متى يصلى عليه ليتمكنوا من الصلاة عليه .
اتصل أحد الموظفين في المستشفى بمنزل المتوفى .. كان المتحدث أخوه .. قال عنه .. أنه يذهب كل اثنين لزيارة جدته الوحيدة في القرية .. كان يتفقد الأرامل والأيتام .. والمساكين .. كانت تلك القرية تعرفه فهو يحضر لهم الكتب والأشرطة الدينية .. وكان يذهب وسيارته مملوءة بالأرز والسكر لتوزيعها على المحتاجين .. وحتى حلوى الأطفال لا ينساها ليفرحهم بها .. وكان يرد على من يثنيه عن السفر ويذكر له طول الطريق .. إنني أستفيد من طول الطريق بحفظ القرآن ومراجعته .. وسماع الأشرطة والمحاضرات الدينية .. وإنني أحتسب إلى الله كل خطوة أخطوها .. من الغد .. غص المسجد بالمصلين .. صليت عليه جموع مع جموع المسلمين الكثيرة .. وبعد أن انتهينا من الصلاة حملناه إلى المقبرة .. أدخلناه في الحفرة الضيقة ..
وجهوا وجهه للقبلة ..
بسم الله على ملة رسول الله ..
بدأنا نهيل عليه التراب ..
اسألوا لأخيكم التثبيت فإنه يسأل ..
استقبل أول أيام الآخر .. وكأنني استقبلت أول أيام الدنيا ..
تبت مما عملت عسى الله أن يعفو عما سلف وأن يثبتني على طاعته وأن يختم لي بخير .. وأن يجعل قبري وقبر كل مسلم روضة من ريلض الجنة ..
* السفر البعيد
بدت أختي شاحبة الجسم .. ولكنها كعادتها تقرأ القرآن الكريم ..
تبحث عنها تجدها في مصلاها .. راكعة ساجدة رافعة يديها إلى السماء .. هكذا في الصباح وفي المساء وفي جوف الليل لا تفتر ولا تمل ..
كنت أحرص على قراءة المجلات الفنية والكتب ذات الطابع القصصي .. أشاهد الفيديو بكثرة لدرجة أنني عرفت به .. ومن أكثر من شيء عرف به .. لا أؤدي واجباتي كاملة ولست منضبطة في صلواتي ..
بعد أن أغلقت جهاز الفيديو وقد شاهدت أفلاما متنوعة لمدة ثلاث ساعات متواصلة .. ها هو الأذان يرتفع من المسجد المجاور ..
عدت إلى فراشي ..
تناديني من مصلاها .. نعم ماذا تريدين يانورة ؟ قالت لي بنبرة حادة : لا تنامي قبل أن تصلي الفجر ..
أوه .. بقى ساعة على صلاة الفجر وما سمعتيه كان الأذان الأول ..
بنبرتها الحنونة ــ هكذا هي حتى قبل أن يصيبها المرض الخبيث وتسقط طريحة الفراش .. نادتني .. تعالى يا هناء بجانبي ..
لا أستطيع إطلاقا رد طلبها .. تشعر بصفائها وصدقها ..
لا شك طائعا ستلبي ..
ماذا تريدين ..
اجلسي ..
ها قد جلست ماذا لديك ..
بصوت عذب رخيم : (( كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة )) آل عمران : 185 .
سكتت برهة .. ثم سألتني ..
ألم تؤمني بالموت ؟
بلى مؤمنة ..
ألم تؤمني بأنك ستحاسبين على صغيرة وكبيرة ..
بلى .. ولكن الله غفور رحيم .. والعمر طويل ..
يا أختي .. ألا تخافين من الموت وبغتته ..
انظري هند أصغر منك وتوفيت في حادث سيارة ..
وفلانة .. وفلانة ..
الموت لا يعرف العمر .. وليس مقياسا له ..
أجبتها بصوت الخائف حيث مصلاها المظلم .
إنني أخاف من الظلام وأخفتيني من الموت .. كيف أنام الآن .. كنت أظن أنك وافقت للسفر معنا هذه الإجازة ..
فجأة .. تحشرج صوتها واهتز قلبي ..
لعل هذه السنة أسافر سفرا بعيدا .. إلى مكان آخر .. ربما يا هناء .. الأعمار بيد الله .. وانفجرت بالبكاء ..
تفكرت في مرضها الخبيث وأن الاطباء أخبروا أبي سرا أن المرض ربما لن يمهلها طويلا .. ولكن من أخبرها بذلك .. أم أنها تتوقع هذا الشيء ..
ما لك تفكرين ؟ جاءني صوتها القوي هذه المرة ..؟
هل تعتقدين أني أقول هذا لأنني مريضة ؟
كلا .. ربما أكون أطول عمرا من الأصحاء ..
وأنت إلى متى ستعيشين .. ربما عشرون سنة .. ربما أربعون .. ثم ماذا .. لمعت يدها في الظلام وهزتها بقوة ..
لا فرق بيننا كلنا سنرحل وسنغادر إما إلى جنة أو إلى نار .. ألم تسمعي قول الله : (( فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز )) آل عمران : 185
تصبحين على خير ..
هرولت مسرعة وصوتها يطرق أذني .. هداك الله ..
لا تنسي الصلاة ..
الثامنة صباحا ..
أسمع طرقا على الباب .. هذا ليس موعد استيقاظي .. بكاء .. وأصوات .. يا إلهي ماذا جرى ..
لقد تردت حالة نورة .. وذهب بها أبي إلى المستشفى .. إنا لله وإنا إليه راجعون ..
لا سفر هذه السنة .. مكتوب علي البقاء هذه السنة في بيتنا .
بعد انتظار طويل ..
عند الساعة الواحدة ظهرا .. هاتفنا أبي من المستشفى .. تستطيعون زيارتها الآن هيا بسرعة ..
أخبرتني أمي أن حديث أبي غير مطمئن وأن صوته متغير ..
عباءتي في يدي ..
أين السائق .. ركبنا على عجل .. أين الطريق الذي كنت أذهب لأتمشى مع السائق فيه يبدو قصيرا .. ما له اليوم طويل .. وطويل جدا ..
أين ذلك الزحام المحبب إلى نفسي كي ألتفت يمنة ويسرة .. زحام أصبح قاتلا ومملا ..
أمي بجواري تدعو لها .. إنها بنت صالحة ومطيعة .. لم أرها تضيع وقتها أبدا ..
دلفنا من الباب الخارجي للمستشفى ..
هذا مريض يتأوه .. وهذا مصاب بحادث سيارة .. وثالث عيناه غائرتان .. لا تدرى هل هو من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة ..
منظر عجيب لم أره من قبل ..
صعدنا درجات السلم بسرعة ..
إنها في غرفة العناية المركزة .. وسآخذكم إليها .. ثم واصلت الممرضة إنها بنت طيبة وطمأنت أمي أنها في تحسن بعد الغيبوبة التي حصلت لها ..
ممنوع الدخول لأكثر من شخص واحد ..
هذه هي غرفة العناية المركزة ..
وسط زحام الأطباء وعبر النافذة الصغيرة التي في باب الغرفة أرى عيني أختي نورة تنظر إلى وأمي واقفة
بجوارها .. بعد دقيقتين خرجت أمي التي لم تستطع إخفاء دموعها ..
سمحوا لي بالدخول والسلام عليها بشرط أن لا أتحدث معها كثيرا .. دقيقتين كافية لك ..
كيف حالك يانورة ..
لقد كنت بخير مساء البارحة ..ماذا جرى لك ..
أجابتني بعد أن ضغطت على يدي : وأنا الآن ولله الحمد بخير الحمد لله ولكن يدك باردة ..
كنت جالسة على حافة السرير ولا مست ساقها .. أبعدته عني
آسفة إذا ضايقتك .. كلا ولكني تفكرت في قول الله تعالى : (( والتفت الساق بالساق * إلى ربك يومئذ المساق )) القيامة : 29 .
عليك يا هناء بالدعاء لي فربما استقبل عن قريب أول أيام الآخرة .
سفري بعيد وزادي قليل ..
سقطت دمعة من عيني بعد أن سمعت ما قالت وبكيت .. لم أع أين أنا ..
استمرت عيناي في البكاء .. أصبح أبي خائفا على أكثر من نورة .. لم يتعودوا مني هذا البكاء والانطواء في غرفتي ..
مع غروب شمس ذلك اليوم الحزين ..
دخلت علي ابنة خالتي .. ابنة عمتي ..
أحداث سريعة ..
كثر القادمون .. اختلطت الأصوات .. شيء واحد عرفته ..
نورة ماتت ..
لم أعد أميز من جاء .. ولا أعرف ماذا قالوا ..
يا الله .. أين أنا وماذا يجري .. عجزت حتى عن البكاء .. فيما بعد أخبروني أن أبي أخذ بيدي لوداع أختي الوداع الأخير .. وأني قبلتها .. لم أعد أتذكر إلا شيئا واحدا .. حين نظرت إليها مسجاة على فراش الموت .. تذكرت قولها : (( والتفت الساق بالساق )) القيامة : 29 .
عرفت حقيقة أن : (( إلى ربك يومئذ المساق )) القيامة : 30 .
لم أعرف أنني عدت إلى مصلاها إلا تلك الليلة ..
وحينها تذكرت من قاسمتني همومي .. تذكرت من نفست عني كربتي .. من دعت لي بالهداية .. من ذرفت دموعها ليالي طويلة وهي تحدثني عن الموت والحساب .. الله المستعان ..
هذه أول ليلة لها في قبرها .. اللهم ارحمها ونور لها قبرها .. هذا هو مصحفها .. وهذه سجادتها .. وهذا .. بل هذا هو الفستان الوردي الذي قالت لي سأخبئه لزواجي ..
تذكرت وبكيت على أيامي الضائعة .. بكيت بكاء متواصلا .. ودعوت الله أن يرحمني ويتوب على ويعفو عني .. دعوت الله أن يثبتها في قبرها كما كانت تحب أن تدعو ..
فجأة سألت نفسي ماذا لو كانت الميتة أنا ؟ ما مصيري .. ؟
لم أبحث عن الإجابة من الخوف الذي أصابني بكيت بحرقة ..
الله أكبر .. الله أكبر .. ها هو أذان الفجر قد ارتفع .. ولكن ما أعذبه هذه المرة ..
أحسست بطمأنينة وراحة وأنا أردد ما يقوله المؤذن .. لفلفت ردائي وقمت واقفة أصلي الفجر .. صليت صلاة مودع .. كما صلتها أختي من قبل وكانت آخر صلاة لها ..
إذا أصبحت لا أنتظر المساء ..
وإذا أمسيت لا أنتظر الصباح ..
قال أبوعبد الله : (( لا أعرف كيف أروي لك هذه القصة التي عشتها منذ فترة والتي غيرت مجرى حياتي كلها ، والحقيقة أنني لم أقرر أن أكشف عنها .. إلا من خلال إحساسي بالمسؤولية تجاه الله عز وجل .. ولتحذير بعض الشباب الذي يعصي ربه .. وبعض الفتيات اللاتي يسعين وراء وهم زائف .. اسمه الحب !
كنا ثلاثة من الأصدقاء .. يجمع بيننا الطيش والعبث ! كلا .. بل أربعة .. فقد كان الشيطان رابعنا ..
فكنا نذهب لاصطياد الفتيات الساذجات بالكلام المعسول ونستدرجهن إلى المزارع البعيدة .. وهناك يفاجأن بأننا قد تحولنا إلى ذئاب لا نرحم توسلاتهن بعد أن ماتت قلوبنا ومات فينا الإحساس !
هكذا كانت أيامنا وليالينا في المزارع ، في المخيمات .. والسيارات على الشاطئ ! إلى أن جاء اليوم الذي لا أنساه ! ذهبنا كالمعتاد للمزرعة .. كان كل شيء جاهزا .. الفريسة لكل واحد منا ، الشراب الملعون .. شيء واحد نسيناه هو الطعام .. وبعد قليل ذهب أحدنا لشراء طعام العشاء بسيارته كانت الساعة السادسة تقريبا عندما انطلق ومرت الساعات دون أن يعود .. وفي العاشرة شعرت بالقلق عليه فانطلقت بسيارتي أبحث عنه .. وفي الطريق شاهدت بعض ألسنة النار تندلع على جانبي الطريق ..
وعندما وصلت فوجئت بأنها سيارة صديقي والنار تلتهمها وهي مقلوبة على أحد جانبيها .. كالمجنون أحاول إخراجه من السيارة المشتعلة .. وذهلت عندما وجدت نصف جسده وقد تفحم تماما لكنه كان ما يزال على قيد الحياة فنقلته إلى الأرض .. وبعد دقيقة فتح عينيه وأخذ يهذي .. النار .. النار .
فقررت أن أحمله بسيارتي وأسرع به إلى المستشفى لكنه قال لي بصوت باك : لا فائدة .. لن أصل ..
فخنقتني الدموع وأنا أرى صديقى يموت أمامي .. وفوجئت به يصرخ : ماذا أقول له : ماذا أقول له ؟ نظرت إليه بدهشة وسألته : من هو ؟ قال بصوت كأنه قادم من بئر عميق : الله .
أحسست بالرعب يجتاح جسدى ومشاعري وفجأة أطلق صديقي صرخة مدوية .. ولفظ آخر أنفاسه .. ومضت الأيام لكن صورة صديقي الراحل وهو يصرخ والنار تلتهمه . ماذا أقول له .. ماذا أقول له ؟
ووجدت نفسي أتساءل : وأنا .. ماذا سأقول له ؟ فاضت عيناى واعترني رعشة غريبة .. وفي نفس اللحظة سمعت المؤذن لصلاة الفجر ينادي : الله أكبر الله أكبر .. أشهد أن لا إله إلا الله .. وأشهد أن محمدا رسول الله .. حي على الصلاة ..
أحسست أنه نداء خاص بي يدعوني لأسدل الستار على فترة مظلمة من حياتي .. يدعوني إلي طريق النور والهداية .. فاغتسلت وتوضأت وطهرت جسدي من الرذيلة التي غرقت فيها لسنوات .. وأديت الصلاة .. ومن يومها لم يفتني فرض !
وأحمد الله الذي لا يحمد سواه .. لقد أصبحت إنسانا آخر وسبحان مغير الأحوال .. وبأذن الله تعالى أستعد للذهاب لأداء العمرة .. وإن شاء الله الحج فمن يدري .. الأعمار بيد الله سبحانهن وتعالى .. )) .
خاتمتان متناقضتان
عشت مرحلتي الدراسية مع والدي ..
في بيئة صالحة اسمع دعاء أمي وأنا عائد من سهري آخر الليل .
أسمع صوت أبي في صلاته الطويلة .. طالما كنت أقف متعجبا من طولها .. خاصة عندما يحلو النوم أيام الشتاء البارد ..
أتعجب في نفسي وأقول .. ما أصبره .. كل يوم هكذا .. شيء عجيب .
لم أكن أعرف أن هذه هي راحة المؤمن وأن هذه هي صلاة الأخيار .. يهبون من فرشهم لمناجاة الله ..
بعد المرحلة التي قطعتها في دراستي العسكرية .. ها قد كبرت وكبر معي بعدي عن الله ..
على الرغم من النصائح التي أسمعها وتطرق مسامعي بين الحين والآخر ..
عينت بعد تخرجي في مدينة غير مدينتي وتبعد عنها مسافة بعيدة .. ولكن معرفتي الأول بزملائي في العمل خففت ألم الغربة على نفسي ..
انقطع عن مسامعي صوت القرآن .. انقطع صوت أمي التي توقظني للصلاة وتحثني عليها .. أصبحت أعيش وحيدا .. بعيدا عن الجو الأسري الذي عشته من قبل ..
تم توجيهي للعمل في مراقبة الطرق السريعة .. وأطراف المدينة للمحافظة على الأمن ومراقبة الطرق ومساعدة المحتاجين .. كان عملي متجددا وعشت مرتاحا .. أؤدي عملي بجد وإخلاص .. ولكني عشت مرحلة متلاطمة الأمواج ..
تتقاذفني الحيرة في كل اتجاه .. لكثرة فراغي .. وقلة معارفي .
وبدأت أشعر بالملل .. لم أجد من يعينني على ديني .. بل العكس هو الصحيح ..
من المشاهد المتكررة في حياتي العملية الحوادث والمصابين ..ولكن كان يوما مميزا ..
في أثنا عملنا توقفت أنا وزميلي على جانب الطريق .. نتجاذب أطراف الحديث .
فجأة سمعنا ارتطام قوي ..
أدرنا أبصارنا .. فإذا بها سيارة مرتطمة بسيارة أخرى كانت قادمة من الاتجاه المقابل .. هبينا مسرعين لمكان الحادث لإنقاذ المصابين ..
حادث لا يكاد يوصف .. شخصان في السيارة في حالة خطيرة .. أخرجناهما من السيارة .. ووضعناهما ممدين ..
أسرعنا لإخراج صاحب السيارة الثانية .. الذي وجدناه فارق الحياة .. عدنا للشخصين فإذا هما في حال الاحتضار ..
هب زميلي يلقنهما الشهادة ..
قولوا لا إله إلا الله .. لا إله إلا الله ..
لكن ألسنتهما ارتفعت بالغناء .. أرهبني الموقف .. وكان زميلي على عكسي يعرف أحوال الموت .. أخذ يعيد عليهما الشهادة ..
وقفت منصتا .. لم أحرك ساكنا شاخص العينين أنظر .. لم أر في حياتي موقفا كهذا .. بل لم أر الموت من قبل وبهذا الصورة .. أخذ زميلي يردد عليهما كلمة الشهادة .. وهما مستمران في الغناء ..
لا فائدة
بدأ صوت الغناء يخفت .. شيئا فشيئا .. سكت الأول وتبعه الثاني .. لا حراك ..
فارقا الدنيا .
حملناهما إلى السيارة .. وزميلي مطرق لا ينبس ببنت شفه .. سرنا مسافة قطعها الصمت المطبق ..
قطع هذا الصمت صوت زميلي فذكر لي حال الموت وسوء الخاتمة .. وإن الإنسان يختم له إما بخير أو شر .. وهذا الختام دلالة لما كان يعمله الإنسان في الدنيا غالبا .. وذكر لي القصص الكثيرة التي رويت في الكتب الإسلامية .. وكيف يختم للمرء على ما كان عليه بحسب ظاهره وباطنه ..
قطعنا الطريق إلى المستشفي في الحديث عن الموت والأموات وتكتمل الصورة عندما أتذكر نحمل أمواتا بجوارنا ..
خفت من الموت واتعظت من الحادثة .. وصليت ذلك اليوم صلاة خاشعة ..
ولكن نسيت هذا الموقف بالتدريج ..
بدأت أعود إلى ما كنت عليه .. وكأني لم أشاهد الرجلين وما كان منهما .. ولكن للحقيقة أصبحت لا أحب الأغاني .. ولا أتلهف عليها كسابق عهدي .. ولعل ذلك مرتبط بسماعي لغناء الرجلين حال احتضارهما ..
من عجائب الأيام ..
بعد مدة تزيد على ستة أشهر .. حصل حادث عجيب ..شخص يسير بسيارته سيرا عاديا .. وتعطلت سيارته .. في أحد الأنفاق المؤدية إلى المدينة ..
ترجل من سيارته .. لإصلاح العطل في أحد العجلات .. عندما توقف خلف سيارته .. لكي ينزل العجلة السليمة ..
جاءت سيارة مسرعة .. وارتطمت به من الخلف .. سقط مصابا إصابات بالغة ..
حضرت أنا وزميل آخر غير الأول .. وحملناه معنا في السيارة وقمنا بالاتصال بالمستشفى لاستقباله ..
شاب في مقتبل العمر .. متدين يبدو ذلك من مظهره ..
عندما حملناه سمعناه يهمهم .. ولعجلتنا في سرعة حمله لم نميز ما يقول .
ولكن عندما وضعناه في السيارة وسرنا ..
سمعنا صوتا مميزا ..
إنه يقرأ القرآن .. وبصوت ندي .. سبحان الله لا تقول هذا مصاب ..
الدم قد غطى ثيابه .. وتكسرت عظامه .. بل هو على ما يبدو على مشارف الموت ..
استمر يقرأ بصوت جميل .. يرتل القرآن ..
لم أسمع في حياتي مثل تلك القراءة .. كنت أحدث نفسي وأقول سألقنه الشهادة ما فعل زميلي الأول .. خاصة وأن لي سابق خبرة كما أدعي ..
أنصت أنا وزميلي لسماع ذلك الصوت الرخيم ..
أحسست أن رعشة سرت في جسدي .. وبين أضلعي ..
فجأة .. سكت ذلك الصوت .. التفت إلى الخلف .. فإذا به رافع أصبع السبابة يتشهد ..
ثم انحنى رأسه ..
قفزت إلى الخلف ..
لمست يده ..
قلبه ..
أنفاسه ..
لا شيء ..
فارق الحياة ..
نظرت إليه طويلا .. سقطت دمعة من عيني .. أخفيتها من زميلي .. التفت إليه وأخبرته أن الرجل قد مات .. انطلق زميلي في البكاء أما أنا فقد شهقت شهقة وأصبحت دموعي لا تقف .. أصبح منظرنا داخل السيارة مؤثرا ..
وصلنا المستشفى ..
أخبرنا كل من قابلنا عن قصة الرجل .. الكثير تأثروا من حادثة موته وذرفت دموعهم .. أحدهم بعدما سمع قصة الرجل ذهب وقبل جبينه ..
الجميع أصروا على عدم الذهاب حتى يعرفوا متى يصلى عليه ليتمكنوا من الصلاة عليه .
اتصل أحد الموظفين في المستشفى بمنزل المتوفى .. كان المتحدث أخوه .. قال عنه .. أنه يذهب كل اثنين لزيارة جدته الوحيدة في القرية .. كان يتفقد الأرامل والأيتام .. والمساكين .. كانت تلك القرية تعرفه فهو يحضر لهم الكتب والأشرطة الدينية .. وكان يذهب وسيارته مملوءة بالأرز والسكر لتوزيعها على المحتاجين .. وحتى حلوى الأطفال لا ينساها ليفرحهم بها .. وكان يرد على من يثنيه عن السفر ويذكر له طول الطريق .. إنني أستفيد من طول الطريق بحفظ القرآن ومراجعته .. وسماع الأشرطة والمحاضرات الدينية .. وإنني أحتسب إلى الله كل خطوة أخطوها .. من الغد .. غص المسجد بالمصلين .. صليت عليه جموع مع جموع المسلمين الكثيرة .. وبعد أن انتهينا من الصلاة حملناه إلى المقبرة .. أدخلناه في الحفرة الضيقة ..
وجهوا وجهه للقبلة ..
بسم الله على ملة رسول الله ..
بدأنا نهيل عليه التراب ..
اسألوا لأخيكم التثبيت فإنه يسأل ..
استقبل أول أيام الآخر .. وكأنني استقبلت أول أيام الدنيا ..
تبت مما عملت عسى الله أن يعفو عما سلف وأن يثبتني على طاعته وأن يختم لي بخير .. وأن يجعل قبري وقبر كل مسلم روضة من ريلض الجنة ..
* السفر البعيد
بدت أختي شاحبة الجسم .. ولكنها كعادتها تقرأ القرآن الكريم ..
تبحث عنها تجدها في مصلاها .. راكعة ساجدة رافعة يديها إلى السماء .. هكذا في الصباح وفي المساء وفي جوف الليل لا تفتر ولا تمل ..
كنت أحرص على قراءة المجلات الفنية والكتب ذات الطابع القصصي .. أشاهد الفيديو بكثرة لدرجة أنني عرفت به .. ومن أكثر من شيء عرف به .. لا أؤدي واجباتي كاملة ولست منضبطة في صلواتي ..
بعد أن أغلقت جهاز الفيديو وقد شاهدت أفلاما متنوعة لمدة ثلاث ساعات متواصلة .. ها هو الأذان يرتفع من المسجد المجاور ..
عدت إلى فراشي ..
تناديني من مصلاها .. نعم ماذا تريدين يانورة ؟ قالت لي بنبرة حادة : لا تنامي قبل أن تصلي الفجر ..
أوه .. بقى ساعة على صلاة الفجر وما سمعتيه كان الأذان الأول ..
بنبرتها الحنونة ــ هكذا هي حتى قبل أن يصيبها المرض الخبيث وتسقط طريحة الفراش .. نادتني .. تعالى يا هناء بجانبي ..
لا أستطيع إطلاقا رد طلبها .. تشعر بصفائها وصدقها ..
لا شك طائعا ستلبي ..
ماذا تريدين ..
اجلسي ..
ها قد جلست ماذا لديك ..
بصوت عذب رخيم : (( كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة )) آل عمران : 185 .
سكتت برهة .. ثم سألتني ..
ألم تؤمني بالموت ؟
بلى مؤمنة ..
ألم تؤمني بأنك ستحاسبين على صغيرة وكبيرة ..
بلى .. ولكن الله غفور رحيم .. والعمر طويل ..
يا أختي .. ألا تخافين من الموت وبغتته ..
انظري هند أصغر منك وتوفيت في حادث سيارة ..
وفلانة .. وفلانة ..
الموت لا يعرف العمر .. وليس مقياسا له ..
أجبتها بصوت الخائف حيث مصلاها المظلم .
إنني أخاف من الظلام وأخفتيني من الموت .. كيف أنام الآن .. كنت أظن أنك وافقت للسفر معنا هذه الإجازة ..
فجأة .. تحشرج صوتها واهتز قلبي ..
لعل هذه السنة أسافر سفرا بعيدا .. إلى مكان آخر .. ربما يا هناء .. الأعمار بيد الله .. وانفجرت بالبكاء ..
تفكرت في مرضها الخبيث وأن الاطباء أخبروا أبي سرا أن المرض ربما لن يمهلها طويلا .. ولكن من أخبرها بذلك .. أم أنها تتوقع هذا الشيء ..
ما لك تفكرين ؟ جاءني صوتها القوي هذه المرة ..؟
هل تعتقدين أني أقول هذا لأنني مريضة ؟
كلا .. ربما أكون أطول عمرا من الأصحاء ..
وأنت إلى متى ستعيشين .. ربما عشرون سنة .. ربما أربعون .. ثم ماذا .. لمعت يدها في الظلام وهزتها بقوة ..
لا فرق بيننا كلنا سنرحل وسنغادر إما إلى جنة أو إلى نار .. ألم تسمعي قول الله : (( فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز )) آل عمران : 185
تصبحين على خير ..
هرولت مسرعة وصوتها يطرق أذني .. هداك الله ..
لا تنسي الصلاة ..
الثامنة صباحا ..
أسمع طرقا على الباب .. هذا ليس موعد استيقاظي .. بكاء .. وأصوات .. يا إلهي ماذا جرى ..
لقد تردت حالة نورة .. وذهب بها أبي إلى المستشفى .. إنا لله وإنا إليه راجعون ..
لا سفر هذه السنة .. مكتوب علي البقاء هذه السنة في بيتنا .
بعد انتظار طويل ..
عند الساعة الواحدة ظهرا .. هاتفنا أبي من المستشفى .. تستطيعون زيارتها الآن هيا بسرعة ..
أخبرتني أمي أن حديث أبي غير مطمئن وأن صوته متغير ..
عباءتي في يدي ..
أين السائق .. ركبنا على عجل .. أين الطريق الذي كنت أذهب لأتمشى مع السائق فيه يبدو قصيرا .. ما له اليوم طويل .. وطويل جدا ..
أين ذلك الزحام المحبب إلى نفسي كي ألتفت يمنة ويسرة .. زحام أصبح قاتلا ومملا ..
أمي بجواري تدعو لها .. إنها بنت صالحة ومطيعة .. لم أرها تضيع وقتها أبدا ..
دلفنا من الباب الخارجي للمستشفى ..
هذا مريض يتأوه .. وهذا مصاب بحادث سيارة .. وثالث عيناه غائرتان .. لا تدرى هل هو من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة ..
منظر عجيب لم أره من قبل ..
صعدنا درجات السلم بسرعة ..
إنها في غرفة العناية المركزة .. وسآخذكم إليها .. ثم واصلت الممرضة إنها بنت طيبة وطمأنت أمي أنها في تحسن بعد الغيبوبة التي حصلت لها ..
ممنوع الدخول لأكثر من شخص واحد ..
هذه هي غرفة العناية المركزة ..
وسط زحام الأطباء وعبر النافذة الصغيرة التي في باب الغرفة أرى عيني أختي نورة تنظر إلى وأمي واقفة
بجوارها .. بعد دقيقتين خرجت أمي التي لم تستطع إخفاء دموعها ..
سمحوا لي بالدخول والسلام عليها بشرط أن لا أتحدث معها كثيرا .. دقيقتين كافية لك ..
كيف حالك يانورة ..
لقد كنت بخير مساء البارحة ..ماذا جرى لك ..
أجابتني بعد أن ضغطت على يدي : وأنا الآن ولله الحمد بخير الحمد لله ولكن يدك باردة ..
كنت جالسة على حافة السرير ولا مست ساقها .. أبعدته عني
آسفة إذا ضايقتك .. كلا ولكني تفكرت في قول الله تعالى : (( والتفت الساق بالساق * إلى ربك يومئذ المساق )) القيامة : 29 .
عليك يا هناء بالدعاء لي فربما استقبل عن قريب أول أيام الآخرة .
سفري بعيد وزادي قليل ..
سقطت دمعة من عيني بعد أن سمعت ما قالت وبكيت .. لم أع أين أنا ..
استمرت عيناي في البكاء .. أصبح أبي خائفا على أكثر من نورة .. لم يتعودوا مني هذا البكاء والانطواء في غرفتي ..
مع غروب شمس ذلك اليوم الحزين ..
دخلت علي ابنة خالتي .. ابنة عمتي ..
أحداث سريعة ..
كثر القادمون .. اختلطت الأصوات .. شيء واحد عرفته ..
نورة ماتت ..
لم أعد أميز من جاء .. ولا أعرف ماذا قالوا ..
يا الله .. أين أنا وماذا يجري .. عجزت حتى عن البكاء .. فيما بعد أخبروني أن أبي أخذ بيدي لوداع أختي الوداع الأخير .. وأني قبلتها .. لم أعد أتذكر إلا شيئا واحدا .. حين نظرت إليها مسجاة على فراش الموت .. تذكرت قولها : (( والتفت الساق بالساق )) القيامة : 29 .
عرفت حقيقة أن : (( إلى ربك يومئذ المساق )) القيامة : 30 .
لم أعرف أنني عدت إلى مصلاها إلا تلك الليلة ..
وحينها تذكرت من قاسمتني همومي .. تذكرت من نفست عني كربتي .. من دعت لي بالهداية .. من ذرفت دموعها ليالي طويلة وهي تحدثني عن الموت والحساب .. الله المستعان ..
هذه أول ليلة لها في قبرها .. اللهم ارحمها ونور لها قبرها .. هذا هو مصحفها .. وهذه سجادتها .. وهذا .. بل هذا هو الفستان الوردي الذي قالت لي سأخبئه لزواجي ..
تذكرت وبكيت على أيامي الضائعة .. بكيت بكاء متواصلا .. ودعوت الله أن يرحمني ويتوب على ويعفو عني .. دعوت الله أن يثبتها في قبرها كما كانت تحب أن تدعو ..
فجأة سألت نفسي ماذا لو كانت الميتة أنا ؟ ما مصيري .. ؟
لم أبحث عن الإجابة من الخوف الذي أصابني بكيت بحرقة ..
الله أكبر .. الله أكبر .. ها هو أذان الفجر قد ارتفع .. ولكن ما أعذبه هذه المرة ..
أحسست بطمأنينة وراحة وأنا أردد ما يقوله المؤذن .. لفلفت ردائي وقمت واقفة أصلي الفجر .. صليت صلاة مودع .. كما صلتها أختي من قبل وكانت آخر صلاة لها ..
إذا أصبحت لا أنتظر المساء ..
وإذا أمسيت لا أنتظر الصباح ..
بوعبدالرحمن- همة عالية
- عدد الرسائل : 113
تاريخ التسجيل : 09/05/2008
رد: قصص من الواقع
الله يعطيك العافية يا بوعبد الرحمن على هالقصص المؤثرة ابصراحة القصص تحتاح اتقسمها علشان اتشوق القارئ و اتأثر فيه اب قصة قصة
qtn- همة متطورة
- عدد الرسائل : 80
العمر : 33
تاريخ التسجيل : 28/03/2008
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى